الأربعاء، 26 أبريل 2017

فلسفة ديكارت بمنظور محمد باقر الصدر


ديكارت هو من اقطاب الفلاسفة العقليين ومؤسسي النهضة الفلسفية في اوربا . بدا فلسفته بالشك والشك الجارف العاصف لان الافكار متضاربة فهي - اذن- في معرض الخطا ، والاحساسات خداعة في كثير من الاحيان فهي - ايضا - ساقطة من الحساب وبهذا وذاك تثور عاصفة الشك فتقتلع العالم المادي والمعنوي معا ما دام الطريق اليهما هو الفكر والاحساس .
ويؤكد (ديكارت) على ضرورة هذا الشك المطلق ويدلل على منطقيته بأن من الجائز ان يكون الانسان واقعا في رحمة قوة تهيمن على وجوده وعقله وتحاول خداعه وتضليله فتوحي اليه بافكار مقلوبة عن الواقع وادراكات خاطئة .ومهما كانت هذه الافكار والادراكات واضحة فلا نستطيع استبعاد هذا الفرض الذي يضطرنا الى اتخاذ الشك مذهبا مطرداً.

ولكن ديكارت يستثني حقيقة واحدة تصمد في وجه العاصفة ولا تقوى على زعزعتها تيارات الشك وهي (فكره) فانه حقيقة واقعة لا شك فيها ولا يزيدها الشك الا ثباتا ووضوحا لان الشك ليس الا لونا من الوان الفكر ، وحتى تلك القوة الخداعة لو كان لها وجود فهي لا تستطيع ان تخدعنا في ايماننا بهذا الفكر لانها انما تخدعنا عن طريق الايحاء بالتفكير الخاطى الينا ، ومعنى ذلك : ان التفكير حقيقة ثابتة على كل حال سواء اكانت مسالة الفكر الانساني مسالة خداع وتضليل ام مسالة فهم وتحقيق .

وتكون هذه الحقيقة في فلسفة ديكارت حجر الزاوية ونقطة الانطلاق لليقين الفلسفي الذي حاول ان يخرج به من التصور الى الوجود ومن الذاتية الى الموضوعية بل حاول ان يثبت عن طريق تلك الحقيقة الذات والموضوع معا فبدا بذاته واستدل على وجودها بتلك الحقيقة قائلا : ((انا افكر ، فانا - اذن - موجود ))
وقد يلاحظ على ديكارت في هذا الاستدلال : انه يحتوي - لا شعوريا- على الايمان بحقائق لا زالت حتى الان في موضع الشك عنده فان هذا الاستدلال تعبير غير فني عن الشكل الاول من القياس في المنطق الارسطي ويرجع -فنيا- الى الصيغة الاتية :  ((انا افكر ، وكل مفكر موجود ،فانا موجود ))
ولاجل ان يصح هذا الاستدلال عند ديكارت يجب ان يؤمن بالمنطق ويعتقد بان الشكل الاول من القياس منتج صحيح في انتاجه مع انه لا يزال الشك مهيمنا في عقله على جميع المعارف والحقائق ومنها المنطق وقوانينه .
ولكن الواقع الذي يجب ان ننبه عليه هو : ان ديكارت لم يكن يحس بحاجة الى الايمان بالاشكال القياسية في المنطق حين بدا المرحلة الاستدلالية من تفكيره بـ ((انا افكر ، فانا - اذن - موجود )) بل كان يرى ان معرفة وجوده عن طريق فكره ، امر بديهي لا يحتاج الى تشكيل قياس والتصديق بصغراه وكبراه .
ولما كانت هذه القضية صادقة لانها بديهية بشكل لا يقبل الشك فكل ما هو على درجتها في البداهة صادق ايضا وبهذا عطف قضية اخرى على البديهية الاولى ، وسلم بانها حقيقة وهي : ان الشيء لا يخرج من لا شيء .
وبعد ان امن بالناحية الذاتية اخذ في اثبات الواقع الموضوعي فرتب الافكار الانسانية في ثلاث طوائف :
الاولى: افكار غريزية او فطرية وهي : الافكار الطبيعية في الانسان التي تبدو في غاية الوضوح والجلاء كفكرة الله والحركة والامتداد والنفس .

الثانية:افكار غامضة تحدث في الفكر بمناسبة حركات واردة على الحواس من الخارج وليست لها اصالة في الفكر الانساني .
الثالثة : افكار مختلقة وهي : الافكار التي يصطنعها الانسان ويركبها من افكاره الاخرى كصورة انسان له راسان .
واخذ اول  ما اخذ فكرة (الله) من الطائفة الاولى فقرر انها فكرة ذات حقيقة موضوعية اذ هي في حقيقتها الموضوعية تفوق الانسان المفكر وكل ما فيه من افكار لانه ناقص محدود وفكرة (الله) هي فكرة الكامل المطلق الذي لا نهاية له .ولما كان قد امن سلفا بان الشيء لا يخرج من لا شيء فهو يعرف ان لهذه الصورة الفطرية في فكره سببا ولا يمكن ان يكون هو السبب لها لانها اكبر منه واكمل والشيء لا يجي اكبر من سببه والا لكانت الزيادة في المسبب قد نشات من لا شيء . فيجب ان تكون الفكرة منبثقة عن الكائن اللانهائي الذي يوازيها كمالا وعظمة وذلك الكائن هو اول حقيقة موضوعية خارجية تعترف بها فلسفة (ديكارت) وهي (الله).
وعن طريق هذا الكائن الكامل المطلق اثبت ان كل فكر فطري في الطبيعة الانسانية فهو صادق يحتوي على حقيقة موضوعية لان الافكار العقلية - الطائفة الاولى - صادرة عن الله فاذا لم تكن صادقة كان تزويد الله للانسان بها خدعة وكذبا وهو مستحيل على الكامل المطلق .
ولاجل ذلك امن ديكارت بالمعرفة الفطرية (العقلية) للانسان وانها معرفة صحيحة وصادقة ولم يؤمن بغير تلك الافكار الفطرية من الافكار التي تنشا باسباب خارجية وكان من نتيجة هذا ان قسم الافكار عن الماديات الى قسمين :
احدهما الافكار الفطرية كفكرة الامتداد 
والاخر افكار طارئة تعبر عن انفعالات خاصة للنفس بالمؤثرات الخارجية كفكرة :الصوت والرائحة والضوء والطعم والحرارة واللون .

فتلك كيفيات اولية حقيقية وهذه كيفيات ثانوية لا تعبر عن حقائق موضوعية وانما تتمثل في انفعالات ذاتية فهي صور ذهنية تتعاقب وتثور في دنيا الذهن بتاثير الاجسام الخارجية ولا يشابهها شيء من تلك الاجسام .
هذا عرض خاطف جدا لنظرية المعرفة عند ديكارت .
ويجب ان نعرف قبل كل شيء ان القاعدة الاساسية التي اقام عليها مذهبه ويقينه الفلسفي وهي : (( انا افكر ،فانا-اذن - موجود ))
قد نقضت في الفلسفة الاسلامية قبل ديكارت بعدة قرون ،حين عرضها الشيخ الرئيس ابن سينا ونقدها : بانها لا يمكن ان تعتبر اسلوبا من الاستدلال العلمي على وجود الانسان المفكر ذاته ، فليس للانسان ان يبرهن على وجوده عن طريق فكره ، لانه حين يقول (( انا افكر ،فانا موجود)) ان كان يريد ان يبرهن على وجوده بـ (فكره الخاص) فقط فقد اثبت وجوده الخاص من اول الامر واعترف بوجوده في نفس الجملة الاولى . وان كان يريد ان يجعل (الفكر المطلق) دليلا على وجوده فهو خطا لان الفكر المطلق يحكم بوجود مفكر مطلق لا مفكر خاص واذن فالوجود الخاص لكل مفكر يجب ان يكون معلوما له علما اوليا بصرف النظر عن جميع الاعتبارات بما فيها شكه وفكره .
وبعد ذلك نرى ديكارت يقيم صرح الوجود كله على نقطة واحدة وهي : ان الافكار التي خلقها الله في الانسان تدل على حقائق موضوعية ، فلو لم تكن مصيبة  في ذلك لكان الله خادعا والخداع مستحيل عليه .
وبسهولة يمكن ان نتبين الخلط بين المعرفة التأملية والمعرفة العملية في برهانه فان قضية (الخداع مستحيل) هي ترجمة غير الامينة لقضية (الخداع قبيح) وهذه القضية ليست قضية فلسفية وانما هي فكرة عملية فكيف شك (ديكارت) في كل شيء ولم يشك في هذه المعرفة العملية التي جعلها اساسا للمعرفة التأملية الفلسفية ؟!!
اضف الى ذلك ان تسلسل المعرفة في مذهب ديكارت ينطوي على دور واضح فانه حين امن بالمسالة الالهية اقام ايمانه هذا على قضية يفترض صدقها سلفا وهي : ان الشيء لا يخرج من لا شيء وهذه القضية تحتاج بدورها الى اثبات المسالة الالهية لتكون مضمونة الصدق فما لم يثبت ان الانسان محكوم لقوة حكيمة غير مخادعة لا يجوز لديكارت ان يثق بهذه القضية ويقضي على شكه في سيطرة قوة خداعة للفكر الانساني .

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق